الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **
إن نفوس البشر تتباين ، وطباعهم لا تتفق ، فما كان شاقا عن قوم سهل على آخرين ، وما استصعبه ناس كان سهلا ذلولا عند جمع آخرين ، ومن الخلق ذوو أفئدة ناشزة وقلوب نافرة ، ومنهم من بلغ في اليقين والإيمان الرتبة العليا ، منهم البخيل الشحيح ، ومنهم الكريم الأريحي البذول ، منهم الجبان الرعديد ، ومنهم الهصور المقدام ، نفوس أبية وذوو خصال دنية ، منهم الشكور ومنهم الكفور ، عيون فاجرة ومقل من خشية الله دامعة ، قال تعالى : ولكن الله تبارك وتعالى يسر للإنسان اختيار المعالي وخلع الدنايا ، فقال تعالى : وقال تبارك وتعالى : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) . إن همة الإنسان هي التي تقوده إلى المعالي ، وخساسته ترديه في الدنايا ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم . فمن ألزم نفسه لأواء السعي علا ، ومن ارتضى الرخاوة والدعة فلا . ولولا تكاليف السيادة لم يخب جبان ولم يحو الفضيلة ثائر وأبواب الفضائل كثيرة جمة ، ومناحي السبق في الخير موفورة ، وإذا اختار المرء منها بابا ، وأتقن منها ميدانا فقد أقام للإسلام صرحا من القيم شاخصا ، وأبدى للناس نموذجا من المثل كاملا . فأقام الحجة لله على خلقه ، وأعلى للحق راية على مدى أفقه ، واستنار بنموذجيته أقوام ، واقتدى بِهُدَى دَرْبِه فئام ، وارْعَوَى بصرامة حقِّه طغام . ومما ينبغي تقريره أن الكمال البشري لم يثبت إلا للمعصومين من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ومن عداهم فكل نقص وذنب وتقصير فهو جائز عليهم وثابت في حقهم على وجه اللزوم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) . وعليه فلا مطمح لأحد في بلوغ رتب الأنبياء والمرسلين أصلا ، ولكن مراتب الطاعة المختلفة مأذون بتسنمها مسموح برقيها من كل البشر . لا جرم تنافس على تلك المراتب المتنافسون ، وتسابق إليها الحريصون ، فذاك صوام وهذا قوام وآخر بذول ورابع من الذاكرين الله كثيرا وخامس ممن شمر الساعد في طلب العلم وبلغ رتب العلماء ، وعلى هذا التنظير فإن المتصور أن تتحقق في واقعنا نماذج السلف الصالح الراقية ، ويتجسم في نطاق حواسنا ما نقرأه في تراجم أئمتنا الأعلام . ونفس هذا التنظير يتطابق مع منهج السلف في التزكية ، فسلفنا لم يطمحوا أن يكون كل المجتمع قواما لليل ، أو صواما للنهار لأن هذا لم يتحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصلا ، فكيف نرجوه في أجيال لاحقة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ) . بل المتصور أن تتنوع نماذج الطاعة في المجتمع الواحد ، وتتوزع رتب الطاعة العليا بين الطاقات المختلفة ، فهناك من بلغ في الزهادة واطراح ملذات الدنيا مقام معروف الكرخي ، ومنهم من استوفى من التقوى نصيب أحمد بن حنبل ، ومنهم من نذر نفسه للجهاد فلا تراه إلا مخاطرا بنفسه في كل ميدان ، ومنهم من تفرغ لمقارعة المبتدعة والزنادقة أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومنهم من تصدر للوعظ والإفادة والنصح للأمة أمثال الحسن البصري . وعلى هذا المنوال ينبغي أن ينظر المسلمون لمنهج الصلاح والإصلاح : أن يتوجه كل امرئ إلى ما تطيب نفسه به من رتب الطاعة فيرقى في درجاتها ، ويتسنم منها المقام الأسمى ، ويبلغ فيها الدرجة العليا ، فإن وجد زكاة قلبه في قيام الليل أدمنه ، وإن تلذذ بالصيام أدامه ، وإن أتقن العلم تخصص فيه وأفاد الناس ، وإن استحلى تلاوة القرآن جعله نَفَسَا يحيا به ، وإن كانت نفسه ذات سجايا صالحات كالكرم والحياء تمادى في الخلق ليكون مضرب المثل فيها . وهكذا توجد في المجتمع أمثلة المعالي ، فإذا ما التفت طالب هدى ليقتدي بكريم في حسن الرفادة والقرى رأى نموذجا حاتميا ، وإذا بحث متنسك عن أسوته في الصيام والقيام وجد شبيه الفضيل ومثيل المحاسبي . والمطلوب أن يترفع كل ذي خصلة في درجاتها حتى يصير أحدوثة الدهر ، متسابقا متسارعا غيورا أن يسبقه إلى الله مشمِّر ، لا يقنع من نفسه بسير الهوينى حتى يعدو كالمُصَلِّي وينبذ الحَجْل المقيت . إن الذي يعجز عن أن يقدم لدينه نشاطا دعويا ملموسا في معترك الصراع مع الباطل ، وفي لجة الحرب الضروس مع عروش الكفر وأصنام المذاهب الباطلة المعبودة من دون الله ، لن يعجز إن شاء الله أن يقدم لأمته نموذجا يقتدى به فيما عجز عنه الدعاة المنشغلون بمواجهة صناديد الكفر العنيد والفسق العتيد . بل إن هؤلاء على الحقيقة هم الجنود المجهولون الذي يقوى بنماذجهم بنيان الصحوة ، ويصفو الكدر ، وتتلاشى الشوائب . وهؤلاء هم الذي على أصداء صلاحهم تتنـزل الفتوح ويهبط النصر المبين ، يقول الأستاذ الراشد : إن الداعية إذا ألزم نفسه بالورع كانت لورعه أصداء يحدث تكررها وترددها تحريكا للناس ، ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيى بن معاذ من أنك ( على قدر شغلك بالله : يشتغل في أمرك الخلق ) ، وتوفيق الله تعالى لنا في عملنا التجميعي منوط بإقبالنا عليه ، وما أزمة صدود الناس عنا إلا من نتائج أزمة قلة اهتمامنا بما أوجبه الله ، ومن أقبل بقلبه على الله تعالى : أقبل بقلوب العباد إليه . إن الدعاة كثيرا ما يشطون عزوف الناس عنهم والتهاءهم بشكليات عادية يجدونها عند الأحزاب الأخرى ، وبالغث لا بالسمين ، وباللغو لا بالعلم ، وما من شك في أن هذه الظاهرة هي من الجهالة التي قوبل بها الأنبياء عليهم السلام وبعض المصلحين ، وأنها صفة متوقعة من البشر ، وأنها من علامات اقتراب الساعة ، ولكن يبدو أن صدود الناس هذه الأيام قد فاق كل صدود سابق ، وأن جهالة الناس بلغت حضيضا واطئا ، وأصبح أمر الإصلاح عسيرا على المقل الماشي في طريق الإيمان بهدوء وبرودة ، ولا بد أن يتصدى المكثر ، الراكض ، الفائر ، ذو الحرارة . إن للتقوى آثار تشغيل ، وبمقدار جديتنا : يكون الناس جديين ، ولنا شاهد دائم في أنفسنا ، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم ، وإيماننا يزيد وينقص ، فإذا كنا حينا في إيمان جيد : رأينا إقبال الناس علينا ، وإذا كان فينا جزر إيماني وقسوة قلب في حين آخر : رأينا قلة جدوى نشاطنا ، مع كثرة غدونا ورواحنا ، وكل منا قد تعاقبت عليه مثل هذه الأحوال ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس مـنه ، وضوابط إنتاج الجماعة تعتمد في كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الفرد . أهـ . إن الأمة تحتاج أن يوجد من بينها من إذا أقسم على الله أبره الله ، من إذا رفع أصبعه إلى السماء داعيا تفتحت له أبواب القبول والإجابة ، من إذا ألح على الله تبارك وتعالى نزل التأييد من الله عاجلا غير آجل . تحتاج الأمة إلى البذول المضحي بالمال والثروات لا يخاف الفقر والإملاق ، نموذجا في الإنفاق كأبي بكر الصديق يوم خرج من ماله كله فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله . إن الأمة أحوج ما تكون إلى فتيان صدق يعيدون إلينا ذكرى المتنسكين الأول أمثال الفضيل بن عياض وابنه علي والسفيانين وعبد الله بن المبارك والكرخي وأحمد بن حنبل وأضرابهم . إن الأمة لفقيرة إلى أنموذج في الزهد يذكر الناس بحقيقة الدنيا ويريهم أن في البشر من يمكنه أن يغالب نفسه ويطلق هذه الدنيا طلاق البتة وأن يقنع من هذه الدنيا بالقليل الذي يكفي . محتاجة والله هذه الأمة المنكوبة إلى من يعيد لها ذكريات وأمجاد الأكارم الأول كحلم الأحنف بن قيس وجود ابن المبارك وصبر أحمد في المحن وجلد ابن تيمية في مواجهة قوى الفساد والعتو والبغي . وما أجمل أن يتلفت الناس من حولهم في كل مدينة وقرية فيجدون هذه النماذج حجة لله عليهم ، وصرخة نذير تذكرهم بما يجب عليهم ، وتلفت أنظارهم إلى أن المكارم والمعاليَ ثَمَّ تنادي عليهم بالرقي والسمو بأحوالهم . وليت الدعاة والمربون يلاحظون هذا الاتجاه في تربية النشأ ، فقد يجدون من بين الشبيبة من تقصر به همته عن مواجهة الناس بخطبة أو درس ولكنه سيجده في الزهادة والتقوى غرسا يحتاج إلى السقاية والعناية . وقد يجد من بينهم من لا يتقن فنون العلم ولكنه سيجده في رقة القلب وسرعة الدمعة ما يستحق أن تُنَمَّى فيه هذه الخصلة ليكون قدوة للعيون الجامدة والمُقَل المتحجرة. وليس على الدعاة والمربين من بأس أن يندر - في نشأهم الذين يربونهم - طلبة العلم أو الراغبون في التخصص ، ويكون بدلا منهم المتنافسون في الخيرات والعبادات . بل إني لأرى أن العلم فيه ما يرغب الناس فيه ، فآثاره في الناس مشهودة ، وفضائله في النصوص معلومة ، ورتبته في دنيا الناس لا ينكرها أو يزهد فيها إلا غر جهول . أما الفضائل الأخرى كالزهد والاجتهاد في العبادة وتحقيق معالي الأخلاق ومكارمها فليس لها من وازع إلا نجابة الساعي إليها وسمو عقل من شمر للتمثل بها . والصحوة الآن تمر بحالة تشبع في طلبة العلم الذين قنعوا من العلم باسمه ، واكتفوا من مزاياه بشكله ورسمه . وندر من بينهم من حقق في دنيا الناس شيئا مما تعلمه أو علمه لا أستثني ورب الكعبة نفسي . والصحوة أشد ما تكون احتياجا إلى نماذج الصلاح العليا التي سيكون لها دور المناعة والحصانة لهذه الصحوة من الانحلال والتآكل . ويمكننا أن لخص خطوات هذه الطريقة في الفقرات الآتية : (1) اهتمام الدعاة والمربين بالقيم والمثل والأخلاق ونماذج الصلاح والعبادة أثناء ممارسة النشاطات التربوية والدعوية المختلفة . (2) أن تتوافر في المكتبة الإسلامية الأدبيات التي تظهر هذه النماذج من السلف الصالح بحيث تكون وسيلة ميسورة لتعليمها للناشئة أو تعميمها على الناس وتذكرهم بها في الخطب والدروس والمواعظ . (3) أن يقوم الدعاة بدور تربوي دقيق في ملاحظة العناصر عالية المستوى من الناشئة ، والتدقيق في صلاحيتهم لأي اتجاه ، وتنمية ذلك الاتجاه بما يحقق نبوغهم فيه ورقيهم على دربه . (4) أن يجتهد كل الدعاة بل كل الغيورين على الدين في أن يحقق كل واحد منهم نموذجا من نماذج الصلاح التي يحبها وينوي بهذا الاجتهاد في بلوغ رتبة الصلاح أن يكون داعيا بصلاحه إلى الله تعالى وحجة له على خلقه ورمزا لشموخ هذا الدين وأثره في نفوس أتباعه . (5) شحذ همم الناشئة للتنافس في درب الاستقامة عبر المسابقات العلمية والمخيمات التربوية والاعتكافات في المساجد والندوات الترفيهية . وبعد .. فإن الصلاح حركة ذاتية في أعماق النفس حيث تتفاعل الإرادات ، وتتجاذب الأهواء وتتعارك النوازع ، وينتصر في النهاية العزم القوي . والنفس الطاهرة هي التي تسمو على الخبث ، وتتجذر في تربتها قيم الحق ، ويمكث في أرض فطرتها ما ينفع الناس ، ومن باب رد العجز إلى الصدر .. نقول : إن كل مكلف يستطيع أن يخدم الدين بأن يكون عبقريا في درب من دروب الاستقامة ، فذا في سبيل من سبل المرحمة ، يتخصص في شأن من شئون الآخرة كما يتخصص الناس في مفردات شئون الدنيا . وقد أشار إلى هذا المعنى نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ،كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . رواه البخاري ومسلم . وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون شعبة ، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . رواه البخاري ومسلم .
قد مر معنا أن الدعوة معنى شامل لكل فعل يرغب الناس في دين الله تبارك وتعالى مما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، وهي بهذا المعنى تأبى أن تنحصر في هيئة الموعظة سواء تشكلت في صورة الخطبة أو الدرس أو نحو ذلك . والعجب الذي لا ينقضي من أناس أرادوا أن يحصروا مفهوم الدعوة في خطبة الجمعة ودرس العلم في المسجد ، ناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظ على القبر وفي سوح القتال ، بل وعظ الناس بفعله قبل قوله ، وخصص للنساء يوما يعظهن فيه ، وكان يخص عائشة بمزيد علم لكونها المطلعة على خفي أمره فتكون بذلك المبلغ للناس ما خفي من سنــة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل فداء أسرى بدر أن يعلموا صبية المسلمين الكتابة ، فكل ذلك أَوَلا ينبئ أن الدعوة وخدمة الدين يمكن أن تكون خارج حدود المسجد ؟ ! ولنا أن نسأل : كيف للدعوة أن تقتحم أسوار الطلبة الشيوعيين في الجامعات إذا لم نخرّج من طلائعنا أوتادا في العقيدة الإسلامية ومتخصصين في الأفكار الهدامة يكونون جحافل حق تهدم عروش الكفر بالحجة الواضحة والبرهان الناصع . إنني أستقبح أن يتطاول شيوعي وقح على أحد الشباب الملتزمين ويتهمه بأنه ليس له أيديولوجية ، أو أن يَتَجَهْرَمَ علماني في مدرجات الكليات أمام آلاف الطلبة والطالبات بعقيدة الفصل بين الدين والدولة فلا يجد من الغيورين على دين الله من يقف له بالمرصاد . ولقد شُهد للكفر جولة وحظي النفاق بدولة يوم أن توارى أهل الديانة في المساجد وتركوا الجهاد باللسان الذي أمروا به في غير ما آية : إن الدعوة كما تحتاج خطيبا مصقعا فلا غنى لها أيضا عن صحفي نابه وكاتب ذي قلم سيال ومؤلف حسن الجمع والعرض ومناظر يقطع خصوم الإسلام بحججه القوية وأساليب إقناعه المبهرة ، بل إن الدعوة لا بد أن تطمح أن يكون لديها إعلاميون ذوي دراية بتقنية الإعلام حتى إذا ما تمكنت من إطلاق إذاعة أو قناة تليفزيونية كان ثمة كوادر تحمل هم الدين معها إلى تلك المواقع . وكتابنا مؤلف حال كون المسلمين يعيشون عصر الاستضعاف ، ولكن هذا ليس بحائل أن نتطلع إلا دعوة طلائع الإسلام أن يستعدوا لعصر التمكين بالولوج في كل التخصصات ، فأسلمة العلوم لن تتحقق في أرض الواقع بدون علماء مسلمين نبغوا وأبدعوا وبهروا . وحصر الدين في حلة الوعظ والخطبة كيد علماني عتيق ، أرادوا من ورائه أن يتسربل الإسلام ثوب الكنيسة ، فيظهر الواعظ في لباسه الرسمي المعهود ويلوك كلماته بترنيمة تشبه ترنيمة المنشدين في الكنائس ، لكأن الشيخ يريدونه صنو القسيس الذي يعظ فتتلاشى شمولية الدين في هذا الديكور المصطنع ، وإذا ما هب طبيب أو مهندس أو تاجر يريد تطبيق شرع الله وتعظيم حرماته استعظموا فريته وحسبوه كلابس ثوبي زور ، وهكذا تفر معالم الحقيقة من فحيح الكائدين . من الذي رسم القانون الذي به أُلزم الناس ألا يروا أهل العلم إلا في مقام الوعظ ، وألا يسمعوا آيات الله تتلى إلا عن طريق الدرس أو المحاضرة ، بل من الذي يلزم الدعاة أن ينصهروا في هذه البوتقة فلا يخرجون منها ولا يحيدون عنها . إن نصوص الشرع – من القرآن أو السنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة الصالح – تشير بوضوح إلى أن الدعوة الإسلامية لابد أن تكون جارفة غازية ، لا تقف عند هيئة ولا تتحجر عند تَمثال مكرور ، ومع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحدثنا عنها فإن الدعوة لا بد أن تنطلق في أفق رحيب ، تقاوم الباطل وإلحاده ، تهاجم عرش الكفر وتهزه بثبات ورسوخ ، وليس ذلك يأتي إلا بتلمس الوجوه التي بها نلج إلى قلوب الناس ، ومعرفة الفنون ( الأنواع ) التي بها نحوز قناعاتهم . وتأمل في القرآن كيف يحكي الله عز وجل قصة نبي من أولي العزم من الرسل ، أعيته الحيل في إسماع قومه صوت الحق ، فما برح يبتكر الوسائل ويتحين الفرص بها يجهر بالدعوة ، ذلكم هو نبي الله نوح ، قال عنه الله تبارك وتعالى : قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله : وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها .. ومع الدأب على الدعوة وتحين كل فرصة والإصرار على المواجهة اتبع نوح عليه السلام كل الأساليب ، فجهر بالدعوة تارة ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة ..وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة ، أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم ، فهو سبحانه غفار للذنوب .. وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير .. كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها – وهي البنين – والأموال التي يطلبونها . أهـ وكما كان التنوع مسلك الأنبياء من قديم ، فقد رأينا سلف الأمة ينهجون ذات المنهج في خدمة دينهم . تأمل حركة التصنيف في بدايات القرون الأولى ، وكيف أنها بدأت بكتابة المصحف ثم جمع الحديث وكتابته ، ثم إفراد الصحيح ثم جمعه على أبواب السنن ، ثم جمعه على أسماء الصحابة ثم على أسماء الشيوخ ، واستتبع ذلك ضرورة معرفة الرواة الثقات من الضعفاء فتكلموا في الثقات والضعفاء وأحوالهم وتواريخ ولادتهم ووفياتهم . وإذا عرجنا على باب آخر غير العلم وجدنا كيف أن سلفنا الصالح كانوا أول من أسس فن إدارة دور العلم ، وإذا طالعت كتاب الدارس في تاريخ المدارس أو تاريخ البداية والنهاية لابن كثير لوقفت على المستوى الراقي الذي وصلت إليه فنون الإدارة في زمان كانت أوروبا تخبط خبط عشـواء . ولو قرأت كتاب : شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه لعلمت أن حضارة المسلمين لم تقم على الأماني والأحلام ، بل قامت على سواعد أقوام أخذوا بأسباب المدنية ، وتنافسوا في خدمة دينهم ليعلو صرحه وتشمخ هامته فتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . وقد مر معنا في ( احتراف خدمة الدين ) اجتهاد جماعة التبليغ في التفنن في طرق وأساليب الدعوة والوصول إلى قلوب الخلق وتلمس كل الوسائل الممكنة للدعوة إلى الله . والتنوع ليس مزاجا مطاعا أو هوى متبعا ، ولكنه علم وذوق ، ثم دربة ومنافسة ، إذ لا بد من معرفة أوجه النفع والقصور في كل وسيلة من وسائل الدعوة ، ولا بد من وجود الإحصائيات التي تفيدنا في معرفة الإيجابيات والسلبيات ، ثم إن طرح البدائل مسبقا مع دراستها وتمحيصها ( كما هو معلوم في علم الإدارة ) له دور في تلافي الفشل الذي يعتري الوسائل القاصرة . ولذوق الداعية دور مهم في جماليات الوسائل حتى تكون ذات رونق يتميز به الداعية المسلم عن غيره . أما منافسة الداعية لغيره ودربته في تنويع وسائله فعاملان مهمان في شحذ الهمم والإمكانيات واستنباط الأفكار الجديدة والعبقرية . وليس يغيب عنا أن ننبه أن الجهد الجماعي في تنويع وسائل الدعوة أثرى وأغزر في الفائدة من الجهد الفردي ، كما أن قضية التنوع وغيرها من ملامح دعوية مرتهنة بقضية العمل الجماعي ولا ريب ، فقد برهنّا أن جهد الجماعة محاط برعاية الله مشمول بعنايته ومباركته . ونختم هذا الفصل بتوصيات عملية تفيد قضية التنوع بالنسبة للداعية : (1) ضرورة فهم مبدأ الابتكار في الوسائل الدعوية وأنها مشروطة بشروط شرعية حتى لا تدخل في دائرة الابتداع ، والمعنيّ : أن الدعاة يجب أن يفرقوا بين ما هو مسموح وغير مسموح في وسائل الدعوة حتى يستطيعوا الإبداع دون تهيب من حساسية الابتداع ( إبداع دون ابتداع ) . (2) صقل الخبرات الدعوية بالأساليب الآتية : أ. التعرف على الدعاة والتجمعات الدعوية والاحتكاك بجهودهم . ب. مطالعة المؤلفات الدعوية التي تعنى بهذه القضية مثل كتاب : دليل التنمية البشرية لهشام طالب والمسار للأستاذ محمد أحمد الراشد ومقدمات للنهوض بالدعوة للأستاذ بكار . ج. صقل الذوق الدعوي بالثقافة العامة ومطالعة الدوريات العالمية التي يستفيد الداعية منها في أساليب العرض ومتابعة كل جديد في عالم الإعلام . د. الإعداد لمؤتمرات ومعسكرات تدريب لتنمية قدرات الدعاة . هـ. جمع تجارب الدعاة وخبراتهم ومهاراتهم في كتاب مطبوع لتعميم الاستفادة من تلك الخبرات . (3) ضرورة مطالعة كل ما هو جديد عند دعاة الديانات والمذاهب الباطلة حتى يتمكن الدعاة من مقاومة إغراءاتهم ومواجهتها بالأنفع والأرجى لقبول الناس . (4) الاهتمام بجانب حسن العرض وبخاصة في الأنشطة الإعلامية . وقد أضحى هذا المجال علما له تقنيته ، وتواتر عندنا كيف أن المتنافسين في الحملات الانتخابية في الغرب يستعينون بمدير لحملاتهم تكون مهمته الترويج لشعبية تلك الشخصية بين الناخبين ، وما أجدرنا – في سبيل ديننا – أن تعلم كيف نروج له ونجعله غازيا لقلوب الناس . (5) من الأهمية بمكان أن نولي هذا الجانب مزيدا من الاهتمام عبر إيجاد المتخصصين المتفرغين ( مكاتب خبرة ) لابتكار وسائل دعوية تفيد الدعاة وتعينهم في مجهودهم الدعوي .
الطريقة الرابعة : التعلم والتعليم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل – رجل من أصحابه - : احفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، وعالم متعلم على سبيل نجاة ، وهمج رَعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلي ركن وثيق ، العلم خير من المال ، يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، والمال ينقصه النفقة ، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه ، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة أهـ. نصوص الشرع المطهر وآثار السلف وأقاويل أهل العلم في فضل العلم والعلماء والتعلم والتعليم خارجة عن حوزة الحصر ، والمقصود من هذا الباب بيان خطر العلم والتعلم في رفع راية الدين وسموق لوائه بين العالمين . والمقصود بالعلم ههنا كل علم أورث خشية لله وعزة للدين ، وإن كان من علوم الدنيا ، وعلوم الدين مقصودة لذاتها ، أما علوم الدنيا فمقصودة بالتبع ، فمن ابتغى علما من علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والإدارة والمحاسبة وتقنية الحاسب الآلي واحتسب المثوبة وصدق في تسخير علمه لخدمة الدين رُجي أن تكون هذه العلوم بمثابة علوم الدين ، بل طلبها حينئذ أشرف ممن طلب علوم الدين ولم يرفع بها رأسا . إن المقصود بكلامنا عن العلم هنا ما يعين على إعزاز الدين ورفع راية الحق ، ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أمور : الأول : تعظيم العلم وإجلاله واعتقاد خطورته كما قال حافظ حكمي رحمه الله : وقدس العلم واعرف قدر حرمته لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم الثاني : الجد في طلبة وترك الدعة والكسل ، ومسابقة الغير فيه ، والتفوق على أهل ملة الكفر والعناد . الثالث : الالتزام بمنهج جاد يسير عليه ويعول . ثم إن المقصود بالتعلم والتعليم ههنا أيضا بلوغ الرتبة العليا والغاية الكبرى منهما ، وليس مجرد نوال حظ منه ولو كان قليلا . فهمة الدعاة والغيورين على الدين يجب أن تسابق الريح ، وأن تكتسح الصعوبات ، وتتجاوز الأزمات ، فترقى بصاحبها إلى ذرى المجد والناس قعود . أما آلية التعلم والتعليم فهي المقصودة من بحثنا ههنا ، وكيف يستطيع الدعاة أن يوظفوا هذا الركن الركين ( العلم ) في خدمة الدين ؟ إنه ما من شك أن كل أمر من أمور الدنيا له مقاصد ووسائل ومتممات ، والمقاصد هي التي تحدوا طالبها للرغبة فيها ، والوسائل سبيله الجادة لنيل مرغوبه ومطلوبه ، والمتممات مسلكه في حفظ ما ناله وحصل عليه . ومقصود العلم بالنسبة لطلاب الآخرة نوال رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجائزته تبارك وتعالى ، ومن مقاصد العلم تطهير النفس وتزكيتها وترقي المراتب العليا في العبودية ، ومسامتة الملائكة في مراتب الطاعة ، إذ بالعلم تزداد الخشية وتعظم الإنابة . أما وسيلة السالك طريق الآخرة في نيل مطلوبه من العلم وتتميم ذلك بحفظه من الزوال وعدم النفع ، فيكون بما سنسطره ههنا . فالذي ينبغي أن يعلمه كل غيور على الدين ومساهم في إعزاز الدين أن العلم كيان استراتيجي وحيوي للدعوة الإسلامية ، وهو بمثابة الروح السارية في بنيان الصحوة ، وماء حياتها ورواؤها ، وبقد ما تبلغ الصحوة من العلم شأوا بقدر ما تنال من الإعزاز قدرا . ومعنى كون العلم كيانا استراتيجيا أنه صار ثابتا لا يقبل التغير أو المساومة ، وأنه يجب أن يوضع في أول سلم الأولويات ، كما أن اشتراطه وصفا لازما في حملة هذه الدعوة يجب أن يكون صارما لا يقبل التنازل أو التنازع . فالدعوة لا يمكن أن تبدأ خطواتها بالجهل ، ولا يمكن أن تتسارع في الخطو بأقدام الجهلاء ، ولن تستطيع أن تقيم للدين صرحا شامخا وهي من عدة العلم خاوية على عروشها . وقد أثبت التاريخ بالتجربة - بعد أن ثبت ذلك بنص الوحي المعصوم - أنه ما من أثر يخلد أو جهد يبقى أو تركة تدوم إلا العلم النافع الذي يستفيد به صاحبه ويفيده الناس . فيجب والحال كما ذكرنا أن تتواصى همم الدعاة على تبني ميثاق غليظ في إحياء هذه القيمة في قلوب أفراد المجتمع ، ومن باب أولى في نفوس من ينتمون إلى هذه الصحوة المباركة ، وتحريك ماء الكسل الآسن الذي أنتن بطول الخمول والمكث ، وحفز الطاقات الهادرة التي تنصرف في أودية الدنيا إلى احتضان العلم وتبنيه وإنزاله المنزلة اللائقة به . لم يعد من المقبول أن نكون من أصحاب دين أول كلمة في الوحي الذي اختصصنا به الأمر بالقراءة فإذا بنا نقف في ذيل القراء والناهلين من العلم القراح ، كما لم يعد من المقبول أن نرى جلد الكفار والفجار في طلب العلم ورقي مراتبه وتسنم مدارجه وحملة الحق يحملقون وللشفاه يمصمصـون . يقول الراشد : إن من مصائب أمتنا اليوم أنها لا تقرأ ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها ، لأن طريق الاستدراك طويل ، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام ليقودوا البقية ، وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة ، بل ولفتيان الدعوة الميامين ، الذين هم قادة المستقبل ، فنعم الفتيان فتيان الدعوة لو قرءوا . لقد عرفت شباب الإسلام وصاحبتهم واقتربت منهم ، فوجدتهم من أنقى الناس سريرة وأنصعهم طهرا وأصفاهم عقيدة وأجزلهم وعيا ، ورأيت منهم تشميرا إلى الخير في حرص دائب وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض لاحب ، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم ، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا ، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا لكملت أوصافهم ولتفردوا في المناقب . وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم ، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس ، والنشر في الصحف ، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأول آي القرآن ، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه ، ولم ينل بعد من رفق أم الشافعي وحنانها ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه ، أو موافقة للشاطبي في موافقاته ؟ وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب ابن تيمية ، وابن القيم ، والغزالي ، وابن حزم ؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم ، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان ؟ وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسته لهذه العلوم والآداب فيقول : ليس لي وقت ، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا ، ولا شرع له السهر ! ثم أعجب أكثر إذا ذكرت له كتابا فيأتيني من الغد مغاضبا ، لخطأ وقع فيه كاتبه ، أو بدعة طفيفة ، كأن العلم لا يؤخذ إلا من صاحب سنة محضة وكتاب مصون ! وماذا عليك لو أنك قرأت ونقحت ، وتخيرت وانتقيت ، وأخذت وأعرضت ؟ . إن أول خطوة يجب أن تخطوها الصحوة المباركة في هذا الدرب أن يتواصى الأفراد فيما بينهم على ضرورة تدارك العمر في تحصيل العلم ، وحفز الهمة في التنافس إليه ، وإشاعة هذه الروح بين كل المنتمين إلى الصحوة المباركة ، وأن يتحرك العلماء والدعاة في النداء إلى ثورة في مجال العلم ننفض به غبار الجهل العالق عبر مئات السنين ، نبعث روح السلف الصالح في أجسادنا لتنتبه من رقدتها وتستيقظ من نومتها . وبعد ذلك يجب أن توضع المناهج التفصيلية في تربية الناشئة على العلم وحبه وطلبه والشغف به ، فإن ذلك هو الأساس المكين في إيجاد أمة تعظم العلم وتحييه وتقوم به . كما يجب أن يعمل المسئولون في الحركات الإسلامية على توفير كل الإمكانيات المتاحة لتسهيل عملية طلب العلم لشباب الصحوة ، وتشجيعهم وتبني العبقريات الفذة منهم ، ولإصلاح المناهج التربوية بما لا يتعارض مع هذه المقاصد المذكورة . إن مساجد الدعوة وبيوتات الدعاة يجب أن تكون صروحا للعلم ، ومنارات لطلبته ، ويجب أن يتعاون الدعاة في إيجاد المرجعيات العلمية لكل العلوم ، بحيث يسهل على طلبة العلم أن يختاروا العلوم التي تميل نفوسهم إليها . إننا لا نطمع أن يكون المجتمع كله علماء ، ولكننا نتمنى أن يكون المجتمع بأكمله من طلاب العلم الذي يدعو العقل ليحيى من رقدته فلا يستسلم للظلم والجور أو يرضى بالهزيمة والهون . وطالب العلم الذي بإمكانه أن ينفع دعوته ودينه هو الذي يسلك جادة العلم بجد ، وينأى بنفسه عن أماني الحالمين ، وخطو الكسالى الخاملين . ومن أجل رفع معنويات طلبة العلم وحفز هممهم فيجب ألا يترك لهم طريق الطلب يتخبطون في دياجيره وأساليبه المختلفة المتباينة ، بل يجب أن توضع مناهج الطلب بإزاء تيسير الشيوخ المتخصصين الذين سيكون لهم اليد الطولى في توجيه الطلبة . والآفة التي يعلمها كل طلبة العلم الآن أن مسيرة طالب العلم – إذا كانت له مسيرة أصلا – متروكة لهواه ومزاجه الشخصي ، فهو يقرأ اليوم كتابا فإذا مله أو وجده ثقيل الدم استساغ الترحل عنه إلى كتاب آخر دون استشارة شيخ أو انتهاج منهج . وآخرون يقرءون الكتب التي اشتهرت بين العلماء دون اعتبار لمستواهم وإمكانياتهم في فهم أو هضم المعلومة ، وآخرون يقرءون الكتب ذات التجليد الجميل والغلاف الخلاب ، فإذا ما كان الكتاب ذا ورق أصفر أو تجليد منفر نفرت منه قلوبهم وتذرعوا بأن أعينهم لا تطيق النظر إلى الكتب الصفراء . والأمزجة في هذا الباب لا حصر لها ، وقد عانيت شخصيا أثناء الطلب من بعض هذه الأمزجة الهوائية – لقلة الشيوخ والموجهين آنئذ – ولا شك أن هذا المسلك من شأنه أن يكون عائقا كبيرا في اتجاه تخريج طلبة العلم الجادين المثابرين . وفي مقابل هذا المزاج الهوائي لطلبة العلم فإننا نجد بعض الشيوخ والعلماء والدعاة – للأسـف – يساهمون بدور ذي بال في تقعيد هذا المسلك وتقنينه ، وذلك عن طريق انتهاجهم نفس الطريقة في التدريس ، فبعض الشيوخ لا يثبت على كتاب ، فهو كالحال المرتحل ، بل ربما لا يثبت على علم واحد ، وإنما هو موسوعي مثل القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماطيط . وآخر من العلماء والشيوخ لا عناية له بتلامذته ومريدي علمه ، فهو يلقي لهم بالمعلومات ولا يبالي فهمها فاهم أو أخطأ في تلقيها ساذج ، وربما توجد عنده عبقريات فذة لا يلقي لها بالا . وآخر همه تلقين العلم الشرعي دون أدبه ، فيتخرج تلامذته كالخشب المسندة أو العظام النخرة أو كأعجاز نخل خاوية ، ولربما كان أول من يحاربه ويعارضه ويهاجمه هم تلامذته لأنهم لم يتنشأوا على احترام أهل العلم وتوقير حملته . وقد رأينا في عصرنا من طلبة العلم من نشأ على هذه الشاكلة فأرداه سوء منهجه في الوقيعة بالعلماء والأئمة وسبهم والحط من أقدارهم . وآخرون كثر ليسوا بعلماء ولا أنصاف علماء ، ولكنهم متطفلون على موائد العلم ، شعارهم : قلت وعندنا ( ومن أنتم حتى يكون لكم عند ؟!!) ، وهذا الإمام لم يفهم الحديث ، وذلك الصحابي قوله مردود ، ونحو ذلك من العبارات التي لا طعم لها ، ولكنها خرجت من أفئدة خاوية من توقير العلم وأهله ، ومن عقول مفلسة من العلم وعدته . إن هذه الآفات الناهشة في نسيج الصحوة يجب أن تستأصل من الجذور ، وتستبدل بالمثل الكاملة التي كان عليها سلف الأمة ، فلن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله . ولقد شهدت الصحوة تجربة المعاهد العلمية الخاصة التي استظل بها كثير من طلبة العلم دهرا ثم قلب لها الطغاة ظهر المجن حينما رأوا الأثر الجارف الذي أحدثته في الصف الإسلامي ، بل تواصل زحف الطغاة إلى الدعاة في بيوتهم لأجل منع دروس العلم وتجفيف أي ينبوع حكمة في المجتمع الإسلامي وإطفاء كل شعاع ينبثق في زاوية من زواياه ، وليس من شيء نتسلى به ونتعزى إلا قول الله تعالى : ولكن ذلك لا ينبغي أن يفت من فؤادنا أو ينال من عزيمتنا ، فإن العلم كما أسلفنا استراتيجية لا تراجع عنها ، ويجب أن نستغل كل الوسائل الممكنة للرقي بمستوى المنتمين إلى الصحوة علميا حتى ولو كان بابتكار المناهج التعليمية الجديدة والجادة التي تعالج الوضع المنقوص الذي نعيشه ونحياه . وقد كان لكاتب هذه السطور معاناة لمأساة طلبة العلم ، فتم وضع منهج يعالج إشكاليتين حاصلتين ، الأولى : إشكالية عدم وجود العلماء أو قلتهم أو عدم تفرغهم الكامل لطلبة العلم ، والثانية : إشكالية نوعية الكتب التي يجب قراءتها في كل علم مع اعتبار المرحلية والتدرج في الطلب والتحصيل . فعلى صعيد قلة العلماء عالج المنهج قضية التلقي باعتبارها الأساس الذي اشترطه السلف الصالح في اعتبار العلم ، حتى قال قائلهم : من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة يكن عن الزيغ والتحريف في حرم ومن يكن آخذا للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعــدم وذلك بتقنين قراءة الطلبة للكتب ، عن طريق التدرج في مستوى الكتاب حتى تقل نسبة العبارات الغامضة والمسائل الصعبة ، مع اشتراط وجود الشيخ المتابع الذي يجري اختبارات شفوية وتحريرية ويشرح عينات مختلفة من الكتب أو العناوين التي يقرؤها الطالب . وعلى صعيد نوعية الكتب فقد تم اختيار الكتب التي يسهل قراءتها ( مع الحرص أن تكون نسبة كبيرة منها من كتب التراث الأصيل ) وتصعيد مستواها مرحليا بعد نجاح الطالب في اجتياز الاختبار التحريري والشفوي . وتضمن المنهج بحثا مختصرا في كيفية الاستفادة من قراءة الكتب ، تم فيه تقعيد أسس القراءة النافعة ، والوسائل العملية لتحصيل أعظم فائدة للقارئ العادي والمتوسط والعالي المستوى ، وكل ذلك عن طريق أبحاث نفسية واجتماعية تم الاستفادة منها وتأطيرها في إطار شرعي إسلامي . إن أقل ما يجب أن يبذله دعاة اليوم هو تكوين مجموعات علمية والإشراف عليها ، والرقي بمستواها العلمي والتطبيقي ، وإكسابها الدربة اللازمة لكل ما تحتاجه الدعوة من علوم ومعارف ، حتى الدنيوي منها ، وبدون ذلك فإخال كل المحاولات المبذولة قد أثبتت التجربة أنها باءت بالفشل . وينبغي أن يتدارس الدعاة دوما هذه القضية باعتبارها مشكلة حقيقية تهدد المستقبل الدعوي بحق ، وما لم يعلم الدعاة على تدارك هذا الأمر في مؤتمراتهم واجتماعاتهم فإن الصحوة إما أن تنحسر كما أو كيفا ، وفي كلتا الحالتين فالخاسر الوحيد هو مستقبل هذا الدين . ولكن على صعيد المجهود الفردي نقول : إن أي منتم للصحوة المباركة بل للدين الحنيف لا بد أن يقوم لله قومة صدق ، ينفض عن سربال إيمانه غبار الجهل ، ويتحلى بزينة العلم ، ويصطف في مسيرة الساعين إليه الباحثين عنه الطالبين له . ويكون ذلك ببذل كل جهد مستطاع في مخالطة العلماء وطلبة العلم والأخذ بنصائحهم في قراءة الكتب ، ومشافهة الشيوخ في مسائل العلم ، وعرض ما يصعب أو يستغلق فهمه عليهم .
إن الدعوة كغيرها من الأعمال تحتاج إلى دربة وخبرة ، وما من عمل أتقنه صاحبه بالفطرة ، مصداق ذلك قوله تعالى : وموسى عليه السلام طلب الاستعانة بذي الخبرة حين قال : وهكذا يجب أن يمضي الدعاة ، يجابهون الصعاب ويواجهون المواقف بمهارات مكتسبة ، وخبرات مجتناة ، ودربة مستقاة . ما أعظمها من همة لا تترك لكلمة ( ظروف ) حجة لمحتج ، أو عذرا لمعتذر ، إنه يأبى إلا الكمال ، لأن النفوس الكاملة تستقبح النقص : ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمـام وتكامله في إتقان الأسباب مواز ليقينه في معونة الله تعالى ، لأنها لا تأتي إلا على قدر المئونة ، وهداية التوفيق منوطة باتباع هداية الإرشاد ، والله لا يضيع أجر المحسنين . إذا أسند إلى أحدهم عمل من أعمال الدعوة أقبل عليه بالدرس والتحليل والتمحيص ، واقترح الأساليب ودرس إمكانية تطبيقها ، والعوائق التي قد تحول دون نجاحها ، كما يدرس النتائج المتوقعة واحتمالات الفشل والبدائل المقترحة إن الداعية الناجح ذو قلب عقول ولسان سئول ، يبغض الجهل ، ويعظم العلم ، ويحترم التخصص ، يرفض أن يقوم بعمل لا يتقنه حتى يتقنه . فهو لا يحتج بعدم الإتقان على ترك العمل ، بل يعتذر عن العمل ريثما يتقنه ويقوم به حق القيام . إن الداعية الناجح إذا أسندت إليه خطبة حال كونه لا يجيد الخطابة ، استأذن أصحابه شهرا ليتعلم فن الخطابة ويجيد أساليبها ، ليرقى المنبر متمكنا من صنعته مالئا مكانه الذي وضع فيه . إن الداعية الناجح إذا اكتشف أنه لا يتقن محادثة الناس على الملأ ، هرع إلى المكتبات يبحث عن الكتب التي صنفت في كيفية تنمية مهارات المحادثة ومواجهة الجماهير . إن الداعية الناجح إذا خطب في موضوع أشبعه ، وإذا تحدث في قضية أتى على تفاصيلها فلم يترك تعقيبا لمعقب . إن مشاريع الدعاة الناجحين لا يعتريها الفشل من قبل تقصيرهم ، أو يصيبها الشلل بسبب أخطائهم ، بل بأقدار وحكم لا يعلمها إلا الله تعالى . وهم في بذلهم الوسع مثل الأنبياء الذين مكثوا في أقوامهم مئات أو عشرات السنين ثم لا يأتون يوم القيامة مع أقوامهم إلا بالرهط وبالواحد والاثنين وربما يأتي النبي وليس معه أحد . والمهارات الدعوية تخصص يجب أن نؤمن به ونحترمه ، فليس كل عالم داعية والعكس صحيح أيضا ، وكم من علماء متخصصين ملئوا الدنيا علما ولكنهم يفشلون في أي موقف دعوي ساذج . وكما يجب على الدعاة ألا يفتئتوا على وظيفة العلماء في الفتوى والإفادة ، فيجب على العلماء ألا يحتكروا الدعوة بزعم احتكارهم للعلم . والواقع يشهد بأن المهارات الدعوية صارت تتطلب تخصصات مختلفة ومعقدة لا يسد احتياجاتها المتخصصون في الفقه والحديث . فالدعوة تحتاج إلى المربين لمختلف الأعمار ، والذي يتعهد الأطفال والصبية الصغار ليس كمن يربي الشبيبة المراهقين ، ومن يعنى بمقارعة المنصرين ومجابهة العلمانيين لن يتفرغ كثيرا للاهتمام بسد حاجة الفقراء المسلمين مثلا . إنها وظائف كثيرة ، تحتاج إلى جهود متضافرة ، وفي نفس الوقت إلى مهارات مكتسبة تتناسب وتلك الوظائف . إذ لم يعد من المقبول أن يقوم داعية واحد بكل تلك الأنشطة التي ذكرناها ، أو يهتم بها ويفكر فيها ، إن ذلك سيؤدي به إلى خلل في الأداء أو قصور في التخطيط والتنظيم ولا ريب . فناسب حينئذ أن تتوزع اختصاصات الدعوة على الدعاة ، مع ضرورة أن يقوم كل داعية بإتقان الدور الذي أسند إليه وأن يتخصص فيه ، ويعد نفسه أن يكون مرجعا لغيره من الدعاة فيما أسند إليه . إننا لن نستطيع إيجاد العالم الموسوعي ، والداعية الجامع لكل الفنون والعلوم ، إلا أن يكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن ينبغي أن نتعامل مع السنن الكونية بواقعية ، وألا نركن إلى الأماني الكاذبة والأحلام الشاردة . ومن الواقعية بمكان أن يدرك الدعاة أن مجال الدعوة واسع الأرجاء ، وأنه يحتاج إلى جهود جبارة ، وطاقات هائلة ، وسواعد متضافرة . وأن الساحة مليئة بالأعداء الذين أتقنوا كل المهارات الممكنة للمواجهة مع الإسلام ، وأنهم يعدون العدة الكاملة لاستئصال الدين ، وأن عدتهم في ذلك متكاملة التجهيز والتنسيق ، وأنهم متفقون على تسخير كل تقنية متاحة في نصرة باطلهم . وبإزاء ذلك يتعامل بعض الدعاة مع واقعهم بسذاجة وبساطة لدرجة تدعو للرثاء أو الشفقـة ، مدفوعون بعواطف صادقة لكنها لا تغني فتيلا أمام سنة الله التي لن تجد لها تبديلا . فسنة الله لا تحابي أحدا ، حتى الأنبياء والمرسلين ، اجترفتهم أقدار الإله لما حصل التقصير من بعض أتباعهم . أخذت الرجفة موسى ومن اختاره لميقات ربه بفعل بعض السفهاء ، ويهزم جيش فيه خير البشر وخيرة الله من العالمين محمد صلى الله عليه وسلم لأن من جنده من كان يريد الدنيا . إن المسلمين قد عاشوا – للأسف – قرونا في ظل ثقافة تواكلية ، وتحت سقف سلبية مقننة ، وقد وجد من علماء المسلمين – للأسف أيضا – من يقعد مبدأ السياحة في الأرض والخلوة في الفيافي في وقت كان التتار يدكون حصون الشام والصليبيون يدكون حصون مصر . إن في بعض الأدبيات الصوفية جنوح لما يمكن أن نسميه دعوة للكسل والخمول ، ولن نعجب أن يستقر في أذهان العامة أن الصوفية أو رواد المساجد في الجملة أصحاب بطون ، أو أنهم عشاق الفَتَّة . إن هذه الثقافة التواكلية سرت في وجدان الأمة حتى أضحت عقيدة يُعْتدُّ بها ومَهْيَعا يرتاده كل من أراد التدين . ولا أغالي إذا قلت إن شيئا من هذه التواكلية سرى إلى أوصال الصحوة المباركة بفعل التجاور والمعاشرة . ورأينا من يقنن لهذا الكسل ، ويقعد لما اصطلح عليه العوام اسم ( البركة ) ، أي أن كل شيء يمشي بالبركة أي بدون اتخاذ الأسباب وبدون اكتساب المهارة اللازمة لأدائه . وسمعت بعض الدعاة ينفر من التخطيط السليم لإدارة الدعوة ، وأن الخير في عدم تعقيد الأمور ، وآخر يبدع العمل الجماعي ، وثالث يحرم ابتكار الوسائل الدعوية ، في نمط من السذاجة لا يتناسب مع مقامهم في العلم والفضل . إن اتخاذ الأسباب عقيدة كما أن التوكل نفسه من العبادات القلبية الأصيلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الاثنين في أسلوب بليغ حين قال : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ) . أي تذهب في الصباح المبكر خالية الحواصل ، فإذا عادت في المساء كانت ممتلئة البطون . ولو كان التوكل في ترك الأسباب ، لَقَرَّت الطير في وُكُنَاتِها وأوكارها تنتظر رزقها رغدا يأتيها من كل مكان . ولكنها خرجت وطارت وسعت في أرجاء الحقول تبحث عن الحب والدود ، والفقيه من اعتبر . إنني استحيي والله من نفسي حين أرى المنافق أو الفاسق يتقن من حرفة الدعاية لنحلته ومنهجه مالا أتقن ، وأتوارى خجلا وأذوب كمدا حينما أرى جحافل الكفر تغير على موقع من مواقع المجتمع والدعاة يقفون في دهشة واجمين . إن هذه الثقافة الغبية ، يجب أن تُسْتَأْصل من وجداننا ، ويحل محلها الإيمان بأهمية السبب ، والاستعداد به لمواجهة الباطل ، والبحث عنه ( أعني السبب ) واستفراغ الوسع في طلبه والحصول عليه ، وإعمال سبيل الدربة لاستعماله وتطبيقه واكتساب المهارة فيه . وقادة الصحوة الإسلامية إذا أرادوا أن تخطوا الصحوة خطوات واثقة نحو العالمية التي تتناسب مع رسالتها وضخامة تبعتها فيجب عليهم أن يتدارسوا بجدية مبدأ تدريب الدعاة على المهارات الدعوية ، وتثقيفهم بالثقافات التي يحتاجونها في مسيرتهم . إنه ما من هيئة إدارية أو شركة تجارية إلا وتعقد لموظفيها دورات تدريبية في كل المناحي التي يحتاجها قطاع أعمالهم ، بحيث يترقى الموظفون في درجات المهارة ولا يبقون أسرى المعلومات العتيقة والأساليب البالية . إذن ..فليس على الدعوة من بأس أن تعقد دورات تدريبية لتنمية مهارات الدعاة في الخطابة والموعظة والتأثير على الناس ، أو دورات تدريبية في تحضير الموضوعات وتنسيقها ، أو دورات في إدارة الدعوة في المساجد أو في الجهات التي يكثر تواجد الدعاة فيها . مثل هذه الاتجاه كفيل بتكثير سواد الدعاة عبر رفع كفاءة آحادهم ممن لم يشارك في الدعوة بفعالية من قبل ، ومن شأن هذه الطريقة أن ترفع مستوى أداء الداعية فيتحسن النشاط الدعوي بالتبع ولا ريب . إن من العادي في الدول المتقدمة أن تعقد مؤتمرات بحثية على مستوى الجامعات والصحف والشركات – في كل المجالات – وفي المدارس على مستوى المدرسين والطلبة ، تعرف هذه المؤتمرات بجلسات ( السمنار ) يستضاف فيها متخصص في مجال معين ليتحدث عن تخصصه وكيفية الاستفادة منه في القطاع الذي يستمع إليه ، ثم يتم إتاحة فرصة المناقشة ثم يتم صياغة توصيات يُدلى بها إلى ذوي الاختصاص ليروا ما يمكن تنفيذه من عدمه . ومن الأمور الطريفة التي علمتها مؤخرا أن شهادة الأيزو ( الجودة العالية العالمية ) تعدّى مجالها الجانب الإداري والصناعي ليشمل العملية التعليمية ، فصارت المدارس تمنح شهادة الجودة التي تثبت رقي مستوى مدرسيها وإدارتها وعمليتها التربوية والتعليمية وغير ذلك من الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في المدرسة النموذجية . ولا شك أن هذا الأمر يستدعي إسقاطا مباشرا على شأننا الدعوي ، حيث إن نشاطاتنا الدعوية تفتقر إلى الجودة ، بل تفتقر إلى معايير الجودة نفسها ، لدرجة أن بعض الجماعات العاملة في حقل الدعوة تستسيغ لأفرادها التصدر للخطابة والإفادة حال كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ولا ريب أن هذه جرأة على الله تعالى ، واستهزاء بجناب الشرع الموقر ، واستخفاف بعظمة شعائر الله . إنني أتصور قوة الدعوة في قوة دعاتها وثباتها في ثباتهم ، وقدرتها على غزو قلوب الناس من قدرة دعاتها على حل مشكلاتهم : كل مشكلاتهم ، ولا يمكن أن نرجو نصرا في معركة ما تخاذلت همتنا فيها عن استعمال نفس السلاح الذي يستعمله أعداؤنا أو استعمال ما هو أفضل منه . إن معارك حامية الوطيس دارت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وخصومه كان محك الغلبة فيها لمن أحاط بعلوم الشرع ، ولولا أن قيض الله لأهل السنة مثل شيخ الإسلام في ذلك الزمان لكانت السنة تعاني الآن غربة حالكة ، فكان في تصدي شيخ الإسلام للبدع الكلامية والانحرافات العقدية والسلوكية في المجتمع الإسلامي مع شهادة الخصوم له بطول الباع في علوم الشريعة ، كان ذلك له أعظم الأثر في رفعة شأن أهل السنة وعلو كعبهم بين الناس . وكذلك كانت مجهودات العلامة المحدث الشيخ الألباني - يحفظه الله - في علوم السنة ، ومن قبله جهود الإمام ابن باز رحمه الله في الدعوة والفتوى ، فأعظم الله منـزلة أهل السنة بهما ، وجعل لهم بين الناس وجاهة وصيتا ، وأحسب أن الدعوة تحتاج إلى عشرات من مثل هؤلاء حتى تخوض المعركة بخطى واثقة . وإذا أردنا أن نصوغ مهمات هذه الطريقة في عناصر عملية محددة فيمكننا أن نلخصها فيما يلي : (1) تكوين مكاتب لتبادل الخبرات بين الدعاة مهمتها البحث عن كل جديد في تقنيات العصر مما له مسيس صلة بواقع الدعوة وتسخيره في خدمة الدين ، مع إيجاد الكوادر التي تستطيع التعامل مع تلك التقنيات الحديثة . (2) أن تتواصى همم الجماعات والهيئات الإسلامية على تدريب أفرادها وصياغة مناهج علمية تدريبية ، مع الحرص على متابعة المستوى ومحاسبة المقصرين مع توليد القناعة في نفوس الأفراد والجماعات بأهمية اكتساب الخبرات والتخصصات المناسبة التي تحتاجها الدعوة ، وأن ذلك من صميم الإتقان والإحسان الذي أمر به الشرع المطهر . (3) قد يعسر تنفيذ مثل هذه المناهج التدريبية بطريقة جماعية ، فلا أقل من أن توجد تلك المناهج في صورة مؤلفات متاحة لكل قطاعات الدعاة حتى يتمكنوا من النهوض بإمكانياتهم الدعوية بصفة ذاتية . (4) ضرورة وجود متخصصين في المناهج التدريبية ، مهمتهم متابعة احتياجات الدعوة والدعاة وملاحقة هذه الاحتياجات على صورة كتب أو أشرطة سمعية أو برامج حاسب آلي . (5) من الأهمية بمكان أن يعمل هؤلاء المتخصصين على متابعة الجديد مما تحتاجه الدعوة من المؤلفات الأجنبية وترجمتها وتيسير تداولها على مستوى الدعاة . (6) الاهتمام بالجانب الإحصائي في الأنشطة الدعوية ، لأنها من أهم سمات الموضوعية في تقدير جدوى الوسائل ومدى نجاح التجارب ، وأرى أن القصور الحاد في إحصائيات الدعوة له دور كبير في الارتجالية في معالجة المشكلات . (7) من أهم الجوانب التي يجب على الدعاة إتقانها أو الإلمام بها على أقل تقدير : تقنيات الحاسب الآلي وإمكانياته المتعاظمة وبخاصة في ثورة المعلومات التي أتاحها الحاسب الآلي ، حتى أضحت آلاف الكتب التي يجمعها طلبة العلم في عشرات السنين مخزنة في قرص من أقراص الحاسب الآلي . (8) إصدار دوريات متخصصة في الجوانب التي يحتاجها الدعاة لاسيما الأخبار والقضايا الدعوية الملحة ، وحشد آراء أئمة الصحوة وقادتها فيها لضمان أعلى نسبة توحّد في الاتجاهات وردود الأفعال . (10) عقد المؤتمرات واجتماعات البحث باستمرار على مستوى القادة والأفراد – عند الإمكان – لمناقشة أوضاع الصحوة ودراسة المشكلات واقتراح الحلول والعلاجات ، والتركيز على جانب المشروعات الدعوية العملاقة التي تتطلب مجهودات جماعية وإمكانيات متضافرة . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . رواه البخاري ومسلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبره ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جوّاظ متكبر ) رواه البخاري ومسلم . وعن محمد بن المنكدر قال : كنت في المسجد ، فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد ، فقال : يا رب ليس هكذا . قال :فمطرت ، فتبعته حتى دخل دار حزم أو آل عمر ، فعرفت مكانه ، فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا ، فأبى وقال : لا حاجة لي بهذا . فقلت : فحج معي . فقال : هذا شيء لك فيه أجر ، فأكره أن أنافسك عليه ، وأما شيء آخذه فلا . وقال الأصمعي : لما صافَّ قتيبةُ بن مسلم للتُرْك وهَالَهُ أمرُهم ؛ سأل عن محمد بن واسع ، فقيل : هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء . قال : تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف ، شهير وشاب طرير . إن المتتبع لنصوص الشرع ليجد بدون فكر أو تأمل أن قضية الدعاء تحتل أهمية قصوى في سياق ما وصى به الشرع ، كما تجد مساحة واسعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيك بالقطع أن القوم كانوا يعولون على هذا الأمر جل مشكلاتهم . لا جرم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح . وهو سلاح ماض ، وعدة عتيدة ، ووسيلة موصلة ، ودرب نافذ ، وسالكه مفلح ورابح في كل الأحوال . وقد علم سلفنا الصالح قوة هذا السلاح فاستعملوه في كل شئون حياتهم ، حتى روي عن أحدهم أنه كان يدعو في دعائه قائلا : اللهم ارزقني طبيخا اللهم ارزقني كذا وكذا . وعن بعضهم أنه يسأل ربه كل شيء حتى الملح . وهذا هو المذهب السديد في الباب ، أن يلح العبد في المسألة ولو في الصغير من الشأن إذا أظهر الفقر إلى الله في ذلك الحقير ، وأنه غير مقضي إلا بإذن ربه ذي النعم والآلاء . وما ورد عن بعض السلف من أنه يستحيي من الله أن يسأله شيئا من أمور الدنيا ، فذلك محمول على أنه جازم بفقره إلى الله في تلك الأمور وفضل الاجتهاد في الدعاء والتضرع والسؤال للغايات الكبرى كالفوز بالجنة والنجاة من النار . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات . وفي سياق موضوعنا حول البذل للدين ، فإننا نلاحظ أن طائفة كبيرة من المسلمين ، ومنهم كثير من الدعاة في كثير من بقاع العالم عجزوا عن كثير من أوجه البذل التي ذكرناها وسنذكرها ، ولم يبق لهم من شيء يقدموه أو جهد ليبذلوه إلا أن يبسطوا الأكف ويتضرعوا إلى القوي العزيز بنصرة الدين . فليكن الدعاء إذا تخصصا من التخصصات التي ينبري لها الغيورون على دين الله ، ولتكن تلك الأيدي الضارعة سيوفا مصلتة على هام أعداء الدين ، ولتكن تضرعاتها صرخات نذير في وجوه الكافرين . والذي يجب أن نحشد له اعتقاد الناس : وثاقة اليقين بالله تبارك وتعالى ، وحسن الظن به ، والتعويل على نصرته ، فيدعوا الناس حال كونهم على يقين أن دعاءهم ينفع كما ينفع المال والسلاح وكل مئونة محسوسة . وقد نطق بذلك الوحي كتابا وسنة ، فقد قال تعالى : وما أحوج الدعوة إلى مثل أصبع محمد بن واسع رحمه الله تشكو إلى الله غربة الدين ، وتستنـزل نصره ومدده . وما أحوجنا إلى ذاك الخفي النقي التقي الضعيف المتضعف الذي لو أقسم على الله لأبره . إن جهود هؤلاء الداعين ليست بأقل من جهود من ينكر المنكر بكل جوارحه ، أو من يواجه صناديد الكفر والنفاق في كل ميدان ، وليست بأقل من جهود الخطباء والوعاظ وكل داعية في كل ميدان ، بل هم الجنود الأخفياء الذين علامة صدقهم خفاؤهم ، وحري بغيور أن يجتهد ليصل إلى مثل ما وصل القوم ، من باب البذل لدين الله تبارك وتعالى . ولا مجال أن نعدد ههنا ما ورد في استجابة الله لعباده ، حتى ما ظهر من الكرامات في هذا العصر ، فهو مما لا يخفى على أحد ، وذلك أننا – وكل مؤمن حق – لا يربط الاستمرار في الدعاء بحصول الإجابة ، فهذا شأن المنافقين أو الكافرين الجاحدين لقدرة الله تبارك وتعالى ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من موانع الإجابة ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي ) رواه البخاري ومسلم . كما أن الإلحاح في الإجابة يجب أن يكون دأب كل الدعاة إلى الله تعالى ، وهو شأن علاقتهم بالله القائمة على دوام المناجاة والاجتهاد والتضرع . وقال الأوزاعي يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه . رواه البيهقي في شعب الإيمان . وعن عبدا لله بن عكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال : أما بعد أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : ويستلزم لمن صدر نفسه لخدمة الدين عن طريق الدعاء أن يحصل أسباب وشروط الإجابة بأن يطعم من الحلال وأن يتحرى المكان والزمان الأحرى بالقبول ، وكل ذلك مسطور في كتب أهل السنة بما لا مزيد عليه .
|